منذ ما يزيد على مائة عام تم إصدار قانون الأحوال الشخصية المصري, ومع تغير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وشكل الحياة في البلاد لم يتمكن المشرع من وضع قانون متكامل جديد لتنظيم علاقات الزواج والطلاق ورعاية الأطفال بما يتوافق مع التغيرات التي أحدثها تطور الزمن. فقط مجموعة من التعديلات الترقيعية التي تحاول التصدي لكارثة كبرى هنا أو هناك دون معالجة أصل المشكلة فتكون النتيجة وكأننا نعيش مشهد سمير غانم في مسرحية المتزوجون “جيت الم البنطلون الجاكيتة ضربت”.
عدم التوصل إلى صيغة قانون جديدة لا ترجع إلى صعوبة أو عدم إمكانية حل أزمة قوانين الأحوال الشخصية ولكن الأزمة الحقيقية هي أن كل الأطراف تريد جزءا من السيطرة والتحكم التي تفرضها قوانين الأحوال الشخصية, وفي نفس الوقت لا يريد أي من الأطراف المعنية تحمل جانبا من المسئولية. على سبيل المثال الدولة تريد السيطرة على شكل الأسرة التي هي نواة المجتمع وبالتالي أن تقرر شكل توازن القوى بين أطراف أفراد الأسرة الواحدة. وعلى جانب آخر لا تريد الدولة أية أعباء مالية جديدة تنتج عن القانون سواء فيما يتعلق بالإنفاق على الدوائر المتخصصة في المحاكم ولا فيما يتعلق بالمسئولية عن رعاية الأطفال بعد الطلاق.. أي أن المسئولين عن إدارة الدولة يريدون السلطة ولا يريدون المسئولية. بينما في الوقت نفسه يرغب كثير من المشرعين في لعب دور حماة الفضيلة وبالتالي المسئولين عن مدى قانونية وشرعية العلاقات الجنسية, بينما لا يريدون تحمل المسئولية عن كيفية حل مشكلات عشرات الملايين من الشباب والشابات في سن الزواج وكيف يمكنهم/هن التعامل مع الرغبات الغريزية دون مخالفات شرعية وأيضا دون تبعات اجتماعية وقانونية أو اقتصادية. هذا بخلاف المؤسسات الدينية التي ترغب في تأكيد سلطتها على المجتمع كجهات حامية للدين والشرع وبالتالي ترغب في أن يكون لها القول الفصل في الزواج والطلاق ورعاية الأطفال والمواريث.. بينما لا تتحمل المسئولية عن سد الفجوة حين يتعلل الرجال ببعض النصوص الدينية لفرض سيطرتهم وتعنيف النساء بينما يتنصلون من مسئولياتهم وفق نصوص أخرى ولا ينفقون على الأسر التي قرروا إنشائها ولا الأطفال الناتجين عن الزواج.
النساء والرجال أيضا سواء كانوا ضمن أي من تلك المؤسسات السابقة أم مجرد مواطنين عاديين لديهم مصالحهم/مصالحهن الشخصية من هذا القانون فالرجال يريدون التأكيد على حقهم في السيطرة والتحكم (تحت مظلة القوامة) وفي نفس الوقت التخفف من القيود المتعلقة بالنفقة والمؤخر بعد الطلاق وتأسيس بيت الزوجية ومسئولية الإنفاق خلال الزواج. بينما على الجانب الآخر النساء يرغبن في إنهاء التحكم والسيطرة والحصول على حقوق متساوية مع الرجال فيما يتعلق بالعلاقات الشخصية لكن القيود المجتمعية تمنعهن من التخلي عن المهر والمؤخر وقائمة المنقولات.. الخ.
في الحقيقة جوهر الأمر فيما يتعلق بمطالب النساء وبخروج قانون موحد للأحوال الشخصية يصلح لهذا العصر هو العدالة والتوازن في العلاقات.. هذا التوازن هو ما يمكنه أن يضمن شكلا لمجتمع صحي يعيش أفراده في سلام وليس شكل الأسرة الذي يتخيله البعض ويحاولون الحفاظ عليه ولا نمط علاقات القوة غير المتوازن السائد حاليا والذي يحاول الرجال دعمه بنصوص دينية يفسرونها بطريقة مجتزأة بحيث تضمن لهم الكثير من السيطرة والقليل من المسئولية.
العديد من مشروعات القوانين تم الإعلان عنها وتسريب بعض من موادها لوسائل الإعلام فأثير الكثير من الجدل دون نقاش حقيقي بدلا من ذلك يدعم الإعلام الإثارة بالتركيز على الهوامش والتفاصيل الغريبة والتخويف بدلا من فتح نقاش حقيقي حول التوازن والمساواة والتكافؤ من أجل المصلحة الفضلى لكل الأطراف. آخر المسودات التي تم الإعلان عنها لفت إليها عمر مروان وزير العدل في تصريحات صحفية وقال إن لجنة إعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية انتهت من الأحكام الموضوعية لمشروع القانون، ويتم مراجعتها قانوناً، ومن المتوقع الانتهاء من مشروع القانون خلال شهر، وفي أعقابه بأسبوعين سيتم طرحه للحوار المجتمعي بغير مدة محددة حتى يأخذ حقه في نقاش موسع مع كافة أطياف المجتمع بمختلف الشرائح والاعمال وكذا منظمات المجتمع المدني مع اللجنة المختصة.
أتمنى أن يكون مشروع القانون الجديد أكثر توازنا من المشروعات السابقة وأكثر حفظا لحقوق النساء, لأن ما كان يحدث دوما هو الاستهانة برؤى المؤسسات النسوية ومحاولة تكريس سيطرة الرجال في مؤسسة الزواج دون إرغامهم على تحمل المسئولية. والحجة التي يتم التعلل بها دوما هي الشرع ورغم أن الشرع أرسى قواعد القوامة (السيطرة والتحكم) والمسئولية معا جنبا إلى جنب إلا أن الكثير من الرجال والمشرعين ومشروعات القوانين تركز على القوامة وحقوق الرجال الشرعية وتتجاهل مسئولياتهم. ولا يرغب كثيرون في مواجهة حقيقة أنه إما التعامل مع الشرع كله فتكون السلطة والمسئولية معا على عاتق الرجال وعليهم التعامل من هذا المنطلق. وإما التعامل مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الحالي وصياغة قانون يسعى للتوازن بين السلطة والمسئولية فتكون مناصفة بين الطرفين رجالا ونساء ولن يصعب على رجال الدين والفقهاء البحث عن نصوص وتفاسير فقهية ودينية تدعم تلك الرؤية إذا ما أرادوا العدل والإنصاف فعلا وليس السيطرة والتحكم فقط.
فكرة الارتباط الوثيق بين قوانين الأحوال الشخصية والدين في مصر هي واحدة من أكبر المعضلات التي عرقلت ولا تزال تعرقل إصدار قانون موحد للأحوال الشخصية يكون منصفا للجميع وخاصة النساء اللاتي يقع عليهن أعلب الآثار السلبية والمظالم الناتجة عن عوار القوانين الحالية. وعادة ما يحدث تضارب بين ما تعلنه الدولة من دعم لحقوق النساء في إطار رؤية تقدمية وبين ما يتم طرحه من مشروعات قوانين تخص الأسرة والأحوال الشخصية. التناقض يأتي بسبب السعي لشحن مسودات القوانين بتفاصيل فقهية والخوف من تفضيل الرؤى الأكثر تقدميه أو استنباط رؤى وتفسيرات جديدة أكثر ملاءمة للعصر الحالي. التحدي الأساسي هنا يكمن في القدرة على التعامل مع نصوص الشريعة والاختيار منها وتقنينها في نصوص تستوعب التوازنات الدينية والاجتماعية المختلفة.
لكن نتيجة الخوف من الاتهامات الجاهزة بمخالفة الدين والشرع وأيضا سعي البعض للحفاظ على سلطة الرجال كان ظاهرا بقوة في مسودة القانون السابقة التي تقدمت بها الحكومة في 2021 وكانت مليئة بالإشكاليات القانونية والحقوقية. شُحِنت مسودة القانون بتفاصيل فقهية عديدة، جعلتها أقرب للمحتوى الفقهي منها لشكل القانون الحديث، ليُصبح مشروع القانون بمثابة قطيعة مع تقليد التشريع القانوني المصري على مستوى المحتوى والصياغة.
المساواة وحقوق النساء ليست رفاهية ولا يمكنني تصور أن تكون مخالفة لأية قواعد إلهية وضعها إله عادل, بالعكس الظلم والهروب من المسئولية هي المخالفات الحقيقية للقواعد القانونية الإنسانية ولجوهر العدالة الإلهية. كل ما يحدث هو أن البعض يجتزئون نصوصا ويفضلون تفسيرات لمهاجمة الدعوات للمساواة والعدالة لإبقاء النساء تحت سيطرة الرجال والتهرب من مسئولية الإنفاق في نفس الوقت. وفي الحقيقة هناك خيارين يمكن لهما النجاح: إما قانون مدني يخدم الجميع على اختلافا دياناتهم/ن ومذاهبهم/ن ويطبق نصوص الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الدولة. وإما قانون يستند إلى رؤية تقدمية للشريعة الإسلامية ولا يخشى القائمون على صياغته من الاجتهاد من أجل استباط أحكام أكثر تناسبا للعصر الحالي وللأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة وتراعي التزامات الدولة التي صادقت عليها في الاتفاقيات المختلفة الموقع عليها منذ عقود.
Average Rating