مع كل حدث في فلسطين المحتلة يتصاعد الجدل حول مساندة فلسطين والتطبيع والحديث عن العنف, الغريب أن كثيرا ممن يتحدثون عن رفض العنف عادة يقصدون رفض مقاومة الفلسطينيين للاحتلال وليس رفض الاحتلال وعنفه المنهجي المستمر ضد الفلسطينيين. أحيانا يكون الموقف ملتبس حول كيف يبدأ العنف لكن في هذه الحالة لا يوجد أي التباس في الأمر, فدولة الاحتلال التي منحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اعترافا أمريكيا بحقها في إحكام قبضتها على مدينة القدس تحاول طرد السكان الأصليين من المدينة استكمالا لتغيير الأمر الواقع.
ومنذ 8 مايو بدأ التصعيد باندلاع اشتباكات في منطقة الحرم القدسي وحي الشيخ جراح في القدس، حيث تنفذ إسرائيل إجراءات لطرد عائلات فلسطينية من منازلها، الأمر الذي ردت عليه الفصائل الفلسطينية باستهداف أراضي سيطرة إسرائيل بهجمات صاروخية.
ويوم 10 مايو بدأت القوات الإسرائيلية حملة قصف واسعة على غزة، قالت إنها استهدفت مئات الأهداف لحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، بينما أعلنت السلطات الصحية الفلسطينية في القطاع عن مقتل نحو 197 فلسطينيا حتى الآن، بينهم 58 طفلا، إضافة إلى ما يربو على 1230 جريحا، كما قتل 21 جراء الاشتباكات في الضفة الغربية.
ورغم أن القضية واضحة إلا أن تعقيدات السياسة يمكنها أن تفتح أبوابا لشكوك يتم غرسها في عقول البعض. لكن إذا ما عرف المرء بوصلته جيدا ومبادئه الأساسية سيكون من السهل اتخاذ مواقف متسقة . ما يحدث هو احتلال يسعى باستمرار منذ عقود عديدة لتغيير الواقع السكاني الديموجرافي للأراضي الفلسطينية. بينما أصحاب الأرض يحاولون التمسك بما بقي لهم فيرد عليهم الاحتلال بالرصاص والقمع والاعتقالات. هي قضية إنسانية وأخلاقية بامتياز, نعم لها بعد قومي وبعد ديني وبعد جغرافي.. الخ لكنها قضية إنسانية مبدئية. البوصلة يجب أن تشير إلى مبدأ رفض الاحتلال والإيمان بحق كل الشعوب في الدفاع عن نفسها وعن حقها في الحياة على أرضها.
ضياع تلك البوصلة هو ما يدفع قطاعات مختلفة إلى الابتعاد عن دعم القضية الفلسطينية بل ودعم الاحتلال في بعض الأحيان. من بين تلك النماذج بعض من يدعون “التنوير والعلمانية” إلى رفض الدفاع عن القضية الفلسطينية لكون من يتصدر الدفاع عنها حركة إسلامية. ولا يلتفت أولئك التنويريون المزعومون إلى أن الاحتلال أنشأ دولته على أسس دينية بحتة ورغم الصورة التي يحاول تسويقها فالتمييز القائم على أساس ديني وعقائدي وعرقي منتشر حتى تجاه اليهود وليس فقط المسلمين والمسيحيين.
آخرون يرفضون القضية بسبب الربط بينها وبين القومية العربية. في الواقع قضية فلسطين ليست محلية تخص أهلها فقط, فهي تؤثر على الواقع السياسي والاقتصادي في محيطها الجغرافي وبالتالي تؤثر على المنطقة العربية والشرق الأوسط ومن هنا يأتي “الوجه القومي” للقضية إن جاز التعبير. لكن رفض التعصب لقومية بعينها لا يعني التنصل من قضية إنسانية في المقام الأول تتعلق برفض الاحتلال بغض النظر عن القوميات فالاحتلال مرفوض أيا كانت جنسية المحتل.
آخرون يتعللون بانتشار القمع في المنطقة ويزعمون أن إسرائيل دولة ديمقراطية, وهؤلاء أيضا يجذبون بعض من يفتقدون بوصلة أخلاقية وإنسانية لتوجه انحيازاتهم. فرفض القمع في المنطقة لا يمكن أن يتماشي أبدا مع قبول قمع سلطات الاحتلال للفلسطينيين وسلب حقهم في المقاومة. لا يمكن استيعاب أن يكون هناك شخص يدعم الديمقراطية حقا ويدعم في الوقت نفسه سلطة احتلال.
كلما كانت المعايير واضحة يمكن فصل التعقيدات المختلفة واستخلاص قناعات متسقة مع بعضها البعض. فرفض اليمين الديني لا يعني رفض اتخاذ موقف معادي للاحتلال لمجرد أن تيارا دينيا بعينه يعلن رفضه للاحتلال. رفض الاحتلال مبدأ إنساني وأخلاقي وليس ديني. كما أن رفض استغلال حركة حماس –أو غيرها- للقضية الفلسطينية لتحقيق أهداف خاصة بالحركة لا يعني الدعوة إلى عدم الإيمان بعدالة قضية فلسطين. فحماس ليست فلسطين وليست كل الفلسطينيين والقضية ليست قضية الحركة ولكنها قضية كل إنسان يؤمن بالحرية ويرفض الظلم والاحتلال. كما أن رفض العنف والعدوان لا يمكن أن يعني رفض مقاومة الاحتلال بكل الطرق الممكنة السلمية والعنيفة معا. فلا يمكن أبدا المطالبة بالرد على القصف الجوي بطرق سلمية ولا مواجهة البنادق بالكلمات.
المشكلة لدى البعض –حسبما يزعمون- هي رفض خلط الدين بالسياسة الذي تقوم به حركة حماس وباقي الفصائل الإسلامية. لكن ببساطة يمكن أن أساند القضية الفلسطينية وأعارض حماس. أعارض حماس لأنها حركة سياسية قائمة على أساس ديني, لكن حين تواجه الاحتلال لا يسعني سوى الصمت وتمني الخير للفلسطينيين أصحاب الأرض في مواجهة الاحتلال الصهيوني. أعارض حماس لأنها تقزم القضية حين تربطها بمصالح الحركة السياسية الضيقة بدلا من التركيز على إنسانية القضية. لكن حين تأتي المواجهة مع الاحتلال لن أقف أبدا في صف الاحتلال لكن سأدعم حق الفلسطينيين وكل شعوب العالم في الحرية..
أشعر بالأسى كلما وجدت المزيد من المصريين تحديدا يقعون في شراك العدو ويرددون نفس الأكاذيب والحجج الواهية لتبرير استمرار الاحتلال. لكن لن أنسى أبدا أن إسرائيل عدو وأن المصالح الصهيونية السياسية والاقتصادية تتعارض حتما مع مصالح مصر وتشكل تهديدا للأمن القومي. إسرائيل عدو استوطن على الحدود المصرية ومهما حدث من اتفاقات سلام أو شراكات اقتصادية ستظل عدو يستهدف ليس فقط إحكام السيطرة على ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية ولكن لعب دور سياسي واقتصادي رئيسي في المنطقة وبالتالي سرقة وتهديد الدور المصري والمصالح المصرية.
القضية الفلسطينية إنسانية بامتياز ولكنها أيضا تخص مصر والمصريين تماما كما تخص أهلها في كل أنحاء فلسطين التاريخية. أنا أدعم فلسطين وأدعم مقاومة الاحتلال وأدعم الحفاظ على الأمن القومي المصري ضد العدو المتربص قرب الحدود الشرقية.
Average Rating